من النبي محمد إلى الإسلام السياسي القائم اليوم - مكسيم رودنسون
الإسلام سياسةً وعقيدةً
الفصل الأول
من النبي محمد إلى الإسلام السياسي القائم اليوم (1980)
مكسيم رودنسون
كان لرسالة محمد تأثيرٌ تاريخيٌ كبيرٌ ولكن ليس على الصورة التي يراها المؤمنون بالإسلام والكثير من الناس من خارج الإسلام .
ما الذي أبدعه محمد ؟
الإسلام هو دين عالمي كالمسيحية, يتوجه إلى كل الناس ويمكن لأي إنسان أن يعتنقه مهما كان وطنه وعرقه , هذا بخلاف الأديان القبلية والقومية التي كان موجودة في الأزمنة القديمة . إن الدين الإسلامي يقدم لمعتنقيه مشروعاً إجتماعياً وبرنامجاً يعمل لتحقيقه على الأرض , ويختلف الإسلام عن المسيحية فهو لا يقدم نفسه كمجرد رابطة بين المؤمنين الذين يعترفون بالحقيقة ذاتها بل كمجتمع شامل .
إن المسيحية ولدت في ولاية بعيدة عن مركز الإمبراطورية ولم يبتغِ مؤسس المسيحية إنشاء دولة أبداً , بل إنه ألح على إحترام أطر الدولة القائمة . أما الكنيسة فقد حاولت أن تحوز على إعتراف الدولة بها ولكنها لم ترد الحلول محل الدولة , حتى بعدما أصبحت الكنيسة قوة فقد بقيت كسلطة عقائدية موازية للسلطة الزمنية ولم تتطابق معها . إن غاية المسيحية هي بناء كنيسة تضمّ المؤمنين وتضمن لكل مؤمن إمكانية صنع خلاصه والإستفادة من النعمة الإلهية والإفتداء على يد المسيح .
أما الجماعة الإسلامية فهي على النقيض تماماً , فقد ولدت في مجتمع قبلي لا دولة له , وكانت هذه الجماعة مجبرة على الإنتظام في دولة. منذ البدء كانت جماعة المؤمنين ذات بنية سياسية ( دولة ), عندما يصبح الإنسان مسلماً فإنه تلقائياً ينضمّ إلى هذه الدولة .
إن الجماعة المسلمة الأولى في المدينة والتي تجمعت حول النبي ,إنتشرت بقوة السلاح في بداية الأمر ثم بفضل الدعوة إلى الإسلام بعد ذلك حتى أصبحت إمبراطورية عالمية. خلقت الجماعة – الإمبراطورية حضارة جديدة وثقافة جديد وأقامت حدوداً جديدة تفاعل داخلها مزيج من التقاليد والثقافات المتنوعة .
هذه الجماعة الإمبراطورية لم تلبث طويلاً حتى بدأت تتجزأ لأسباب سياسية ودينية وإستمر الإنقسام وفي يومنا هذا يتمثلّ بشكل رئيسي ما بين المذهب السني والمذهب الشيعي . رغم هذه الإنقسامات إلا أن هناك شيئان أساسيان بقيا هما: جماعة المؤمنين والمثل العليا للمجتمع الإسلامي العادل.
جماعة المؤمنين :
بقيت ولم تستطع الإنقسامات الدينية والسياسية والصراعات العقائدية والعسكرية العنيفة أن تلغي الشعور بالوحدة وكذلك بقية الإعتقادات كالإعتقاد بالله الواحد المتعالي وبالقرآن وهو كلام الله والجماعة المؤمنة تحترم هذا القرآن وتستذكره دائماً حتى ولو لم تكن تفهم كل معانيه .
بقيت ولم تستطع الإنقسامات الدينية والسياسية والصراعات العقائدية والعسكرية العنيفة أن تلغي الشعور بالوحدة وكذلك بقية الإعتقادات كالإعتقاد بالله الواحد المتعالي وبالقرآن وهو كلام الله والجماعة المؤمنة تحترم هذا القرآن وتستذكره دائماً حتى ولو لم تكن تفهم كل معانيه .
إن الإله في الشرق لم يمُت وإن التدين أو الإحساس بالإنتماء إلى جماعة المؤمنين لم يضعُف إلا بين النخب المتأوربة وكانت النتيجة أن الهوية الإسلامية بقيت حيّة وقوية وحافظ المسلمون على شعورهم العميق بالإنتماء إلى أسرة واحدة وهوية واحدة.
المثل العليا والواقع :
الإسلام ليس طريقاً وحيداً للخلاص فحسب بل هو يحملُ المثل العليا لإقامة تجمع عادل يجب تحقيقه على الأرض. ولكن التاريخ الإسلامي شهد الكثير من الحكومات الجائرة والمستبدة فأين كانت المثل العليا ؟
الإسلام ليس طريقاً وحيداً للخلاص فحسب بل هو يحملُ المثل العليا لإقامة تجمع عادل يجب تحقيقه على الأرض. ولكن التاريخ الإسلامي شهد الكثير من الحكومات الجائرة والمستبدة فأين كانت المثل العليا ؟
لقد حفل التاريخ الإسلامي بالثورات السياسية والمذهبية التي قامت بدعوى العودة إلى المجتمع الإسلامي العادل , وكثيراً ما حملت الحركات الشعبية أو الإنقلابات إلى السلطة قادة جدداً مسلحين بالمذهب ( الصحيح ) الذي سيعيد العدالة إلى المجتمع الإسلامية , ولكن الامور كانت تعود إلى سيرتها الأولى , ويثير المجتمع الجديد ما أثاره سلفه من عوامل السخط وتظل النتائج كما هي . وعادة كان يتمّ تفسير هذه الإخفاقات من خلال التذره بضعف الإنسان أما الشيطان, كما أن العالم الإسلامي يتعرض دائماً للهجوم الخارجي.
صاغ المنظرون السياسيون المسلمون قواعد لتعيين الإمام أو الخليفة . عند الشيعة الإمام الشرعي هو معصوم ومنصوص عليه من قبل الله وهو يملك العلم الكلي ولم يتسلم أئمة الشيعة الحكم منذ وفاة الإمام علي بن أبي طالب أول الخلفاء عند الشيعة. أما السنيون فيؤمنون بمبايعة أهل الحل والعقد لخليفة يختاره سلفه والخليفة السني كان دائماً القابض على السلطة بخلاف إمام الشيعة.
إن الإمام أو الخليفة يمتلك السلطة ولكن لم يكن هناك من آلية لمراقبة ممارسته للسلطة , فمن يضمن عدم إنحرافه ؟ كان ذلك يتوقف على الإرادة الطبية وعلى ورع الإمام وعدله . وإذا ما أصبح الإمام ظالماً فالقاعدة العامة هي طاعته رغم ذلك من أجل الحفاظ على النظام الذي لا يمكن للدين أن يستمر دونه , فالظلم خيرٌ من الفوضى برأيهم. ولكن في الحالات القصوى نصّ المنظرون على إمكانية عزل الإمام من قبل أهل الحلّ والعقد أي المتنفذين داخل دوائر السلطة ورجال الدين.
إن الأيديولوجية الدينية الإسلامية وغيرها تستطيع التأثير في الناس ضمن حدود صغيرة أو كبيرة ولكنها لا تستطيع تحويل المجتمعات بشكل عميق .
لقد أحدث الإسلام على شاكلة المسيحية وغيرها تحولاً محدوداً, فبعد مرحلة البدايات التي كانت فيها مجموعة المؤمنين تشكل في الوقت نفسه ما كان دولة عربية, أثار الإنتساب إلإنتساب إلى هذه المجموعة التي أصبحت متعددة الأعراق الحد الاعلى من عواطف الهوية والولاء لايديولوجية الجماعة من النوع الذي كنا نجده في التجمعات الاولية وفي الدول المتعددة الأعراق وفي الدول - الأمم الحديثة فيما بعد.
إن تاريخ الشعوب الإسلامية قبل الحقبة المعاصرة يظهر أن الإسلام لم يضع حداً قطّ لمنافسات وصراعات التجمعات الأولية سواء أكانت قبائل أو دولاً, بل أسهم في تزويدها بحوافز إضافية.
إن إعتناق الدين الإسلامي حوّل ثقافة الشعوب التي إعتنقته بصورة او بأخرى إلا أن هذا التحول كان جزئياً ولم يكن وحيد الجانب, كما لم يكن مطابقاً كلياً لرسالة الإسلام الأولى, إذ أن الثقافة السابقة للشعوب التي تحولت للإسلام قد أثرت في الإسلام .
حملت جماعة المؤمنين المسلمين الأوائل ثقافة الجزيرة العربية ونجح النبي محمد في حمل جماعته على تبني الأفكار الأساسية التي يؤمن بها وفي المقام الأول فكرة وحدانية الله إضافة إلى الأفكار والممارسات التي ترتبط بها. ونجح في جعلهم يجهرون بهذه الأفكار علناً في كل أنحاء شبه الجزيرة العربية . وبعد وفاة النبي محمد توسّعت الجماعة الإسلامية خلال بضعة عقود خارج المنطقة العربي مما أدّى إلى تشكُل حضارة جديدة نتيجة تمازج ثقافات الشعوب المنضوية في الإمبراطورية الإسلامية الجديدة . إن تقارب أنواع السلوك والأفكار بين شعوب هذه الإمبراطورية يسمح لنا بالحديث عن حضارة إسلامية لأن الإسلام كان الباعث الأساسي للوحدة بين هذه الشعوب كما أنه يشكل العقيدة المهيمنة في هذه الإمبراطورية.
ولكن عناصر هذه الثقافة أو الحضارة لم تشتق كلها من الدين الإسلامي. لقد بذل المنظرون المسلمون بمساندة السلطة السياسية جهوداً كبيرة من أجل "أسلمة" هذه الشعوب وثقافتها أسلمة حقيقية ولكنهم لم ينجحوا تماماً, وإضطروا في كثير من الأحيان إلى إضفاء صفة "الإسلامي" على أفكار وممارسات لا علاقة لها بالإسلام. ليس الإسلام وحده من حوّل ثقافات المجتمعات الإسلامية بل إن هذه الثقافات (التي كانت تتبناها الجماعات التي إعتنقت الإسلام حديثاً ) حوّلت الإسلام أيضاً. لكن المنظرين المسلمين سلمّوا وجعلونا نسلّم بأن هذه الثقافات المتحولة كانت مرتبطة بصورة حتمية بالإسلام منذ البدء.
كانت السلطة العليا في الإسلام منذ البدء بيد رجلٍ واحد وفي أحوال نادرة بيد أقلية من الرجال الذين يفرضون سلطتهم بحسب شخصياتهم. وقد حصل هؤلاء الرجال على السلطة بفضل مجموعة محدودة من الممسكين بالقوة المادية والعسكرية في أغلب الأحيان. وتنبع قرارات الحاكمين أولاً من رغبتهم بالمحافظة على السلطة هم وحاشيتهم وتجمعهم العرقي وشريحتهم الإجتماعية وثانياً تنبع قراراتهم من العقيدة الدينية. ويخضع الحاكمون لضغط المحكومين خوفاً من ثورات قد يقوم به هؤلاء فيما لو لم تتناسب قرارات الحاكمين مع مصالح المحكومين. ولعب رجال الدين دوراً في الحركات الإحتجاجية ضد السلطات القائمة , ولكنهم لم يستطيعوا التأثير إلا بشكل جزئي على قرارات السلطة الحاكمة وإختياراتها.
العالم الإسلامي يجرب الوصفات الغربية
في القرن التاسع عشر سجلت النخب في العالم الإسلامي عجز العقيدة الدينية الأخلاقية عن تحقيق مثلها الأعلى , فقررت هذه النخب تبني وصفات عقيدة الحرية السياسية ( الليبرالية ) بداية وبعدها عقد البعض أمالهم على عقيدة التحول الإقتصادي الإجتماعي ( الماركسية ).
لقد قُوبِلَ الإسلام بوصفات الغرب وعقائده وكأنها تمثل صرخة الحداثة الأخيرة أو كأنها الأساس في قيادة الغرب نحو الحرية والغنى والتقدم , ولا بد أن تكون لها نفس النتائج في الشرق. إلا أنه تبين فيما بعد أن الحداثة كانت خادعة إلى أبعد حدّ, فبات العالم الإسلامية في حالة تبعية للسوق الرأسمالية العالمية , كما أدت هذه الحداثة إلى المزيد من سحق الطبقات الدنيا وأدت في الوقت نفسه إلى نشوء طبقات جديدة تتمتع بإمتيازات مضاعفة .
حاول المثقفون التحديثيون حشد الجماهير بإستخدام كلمات من نسق حديث وإدعوا أنها ترجمة لمفاهيم تقليدية من الإسلام, وهذه النخب نظرت بعين الإحتقار إلى العامة ونمط حياتها وثقافتها, أما العامة فقد بقيت رغم فقرها وبؤسها وفية لثقافتها الإسلامية وبقيت معادية لعادات الفئات العليا المتغربة ولكل ما ترمز إليه.
أسئلة للمستقبل
لقد سحر الإسلامُ العالم الغربي, فهو يمثل له تهديداً في أغلب الأحيان , ونموذجاً في أحياناً أخرى. وبعد الثورة الإسلامية في إيران ظهر العالم الإسلامي من جديد كياناً يحافظ بروح غيورة على نوعيته وعلى ثقافته الخاصة فيما هو أبعد عن التوجه الروحي البحت.
كما أن الإنجيل لا يحتوي بين دفتيه وحدهما, سرّ التوسع المسيحي , فالقرآن وحياة النبي محمد لا تتضمنّ تاريخ العالم الإسلامي.
يستطيع العالم الإسلامي اليوم أن يُشكل كتلة عقائدية سياسية قادرة فهو في هذا المجال يتمتع بمزايا لا يمكن أن توجد مجتمعة إلا لديه فهو يمتلك :
1- أساس عريض من الجماهير التي لم تُقوض إنتمائها الإسلامي أية دعاية مناهضة للدين والتي يصدر عنها ضغط إجتماعي هائل تفرضه على أي معارضين محتملين.
2- إنتماء وطني إلى الجماعة لم تزده هجمات الغرب عليه إلا قوة .
3- هناك إتصال وثيق ببين العناصر الثقافية المشتركة.
4- نزعات وطنية وعرقية يمكنها في أغلب الأحيان أن تترافق مع النزعة الوطنية للجماعة في منطقة ما, فالعرب مثلاً فخورون بأن هذا الإيمان العالمي وُلدَ بينهم وأنهم زودوه بمراجعه التاريخية والثقافية واللغوية ...
عوامل القوة هذه خاضعة لشرطين :
على العالم الإسلامي أن يستعيد قوته الذاتية والإقتصادية والعسكرية التي فقدها ولا سبيل له إلى ذلك سوى التصنيع. كما أن عليه الحفاظ على بعض التجانس وبعض الوحدة في العمل من أجل المواجهات الحاسمة على الأقل , وهذا ممكن وإن لم يكن سهلاً. إن العالم الإسلامي يمتلك في هذا الشأن الكثير من الوسائل التي لا يمتلكها العالم الثالث غير الإسلامي ولكن العبرة في كيفية إستخدام هذه الوسائل.
على العالم الإسلامي أن يستعيد قوته الذاتية والإقتصادية والعسكرية التي فقدها ولا سبيل له إلى ذلك سوى التصنيع. كما أن عليه الحفاظ على بعض التجانس وبعض الوحدة في العمل من أجل المواجهات الحاسمة على الأقل , وهذا ممكن وإن لم يكن سهلاً. إن العالم الإسلامي يمتلك في هذا الشأن الكثير من الوسائل التي لا يمتلكها العالم الثالث غير الإسلامي ولكن العبرة في كيفية إستخدام هذه الوسائل.
من حيث المبدأ فما من شيء مستحيل , وخلافاً للفكرة السائدة في الغرب فإن الدين الإسلامي في ذاته ليس عقبة في هذا السبيل ولكن المؤسسة الدينية وأطرها الدينية هي التي تشكل الحاجز. إن رجال الدين يحتفظون بتفسيرات للمذهب الأساسي مشدودة إلى مؤسسات تمّ تجاوزها, وتجمدتّ عند تمجيد الماضي بإعتباره الوحيد الصالح, وهي تُناقض إختيارات التحديث الضرورية وتبرر بالتأويل الإختيارات المعاكسة وتضفي عليها القداسة, إن ملائمة التراث مع الحداثة أمرٌ لا مفرَّ منه وهو ممكن ولكنه يصطدم بثقل الماضي الهائل.
سوف يكون المجتمع الإسلامي الجديد مجتمعاً أصابه تحول كبير ولكن هذا لن يمنعه من البروز كمجتمع إسلامي بصورة نوعية , فالمجتمع الإسلامي التقليدي, أي مجتمع العصور الوسطى والذي ما يزال يُستخدم كمرجع للمحافظين كان يملك في واقع الأمر جملة من الأفكار والمعايير المقتبسة من مجتمعات وثقافات غير مسلمة. ولم يقلل هذا من قناعته بأنه يمثل تركيباً إسلامياً نمطياً ولا من كونه تجسيداً لرسالة النبي محمد.
الفصل الثاني
العالم الإسلامي - تحدي الجغرافيا السياسية
إنه عالم سياسي معرّف بالإنتماء إلى مذهب ديني, ذلك هو المشهد الغريب الذي يقدمه العالم الإسلامي عن نفسه. إن مفهوم العالم الإسلامي هو تبرير ظاهر لرؤية مثالية للتاريخ معاكسة بصورة أساسية للأطروحات الجغراسية. وهو يفترض أن منظومة من الأفكار يمكنها أن تكون رابطاً لتشكيل سياسي دائم واسع المدى وله مواقف سياسية مشتركة محتملة على الأقل.
ويمثل العالم الإسلامي منذ أصوله , شأنه شأن العالم الشيوعي منذ لينين, لوحة لعالم سياسي نوعي خلقته حركة عقائدية قابلة للتوسّع, وأسست مشروعيته دولة جديدة على أساس إعتناقها لمنظومة من "الحقائق" المعلنة حديثاً. وهذه الحقائق الصالحة للعالم كله هي اساس قوتها الكامنة وتطلعها وطموحها إلى التوسع دون أن تكون ثمة حدود أخرى مشروعة, غير حدودها المسكونية .
ثبات الكتلة الإسلامية
تفكك العالم الإسلامي إلى ثلاث قوى أساسية ( الإمبراطورية الصفوية - الإمبراطورية التركية – الهند وعظماء المغول ) ولكن جوهر الإيمان الإسلامي لم يعترض عليه أحد كما حصل في أوروبا في عهد الإصلاح. لقد بقيت الأكثرية في المجتمعات الإسلامية مؤمنة ومخلصة للإسلام وإن لم تكن تطبقه بشكل تامّ.
وتوطدّ هذا الإخلاص بشكل كبير ابتداء من القرن 19 بفعل الهجمات الخارجية وهذه ظاهرة عالمية. إن أسرة تتعرض لهجوم من الخارج ستعمد إلى إعادة لحمة التضامن بين أعضائها وتسكت الإنتقادات التي ظلّت حامية حتى الأمس. ويعتمد الإخلاص على المنظمة أو المجموعة أكثر ما يعتمد على محتوى مبدئها أو برنامجها.
وفي حين تمتع الغرب وهو في وضع السيطرة بطوفان من النقد الذاتي فإن العالم الإسلامي يتصلب ضد أي نقد. إن الرضى الذاتي عاطفة محببة دائماً وهي تحتفظ لنفسها بقدرتها على الإنتماء إلى جماعة " الخير" المتمتعة بالإمتيازات.
بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران وتأثر حركات الإسلام السياسي السنية بها , تظهر كتلة إسلامية قد تلعب دوراً محتملاً على مسرح السياسة الدولية في العقود القادمة.
الفصل الثالث : الإنقسامات السياسية في الإسلام كبؤر عقائدية
الأصالة في الاسلام ليست في مذهبه ولا في شعائره , إنما هو دين ذو أساس متين جاء به نبي مرسل من الله ليبلغ إرادته للناس هو محمد. أما تنظيم جماعة المؤمنين فأكثر أصالة , الدين هنا هو دين عالمي مفتوح للجميع حتى ولو بدأ في أول الأمر وكأنه شكل من التوحيد متوجه إلى الشعب العربي بصورة خاصة.
إن أمة المؤمنين تشكل منظمة شاملة كلية تضم في إطارها جميع أعضائها على قدم المساواة وعليهم جميعاً الإلتزامات ذاتها , ولا مجامع كهنوتية في الاسلام لها حقوق خاصة (المسيحية والبوذية) ولا امتيازات لأي سلالات حتى ولو كانت مختارة (اليهودية). هذه المنظمة الشاملة هي في المنطلق سياسية دينية. وفي وسط بلد لا دولة فيه, رأى النبي أن يزود جماعته وبوحي من الله بتوجيهات دينية واخلاقية كما هي تشريعية وسياسية.
نشأت الفرق الأصلية حول الخطوط التي أثبتها الصراع حول خلافة النبي في القيادة الشاملة ( السياسية والدينية للجماعة ) , وقدمت كل النحل وفروعها عقيدة في سياق المواجهة مع المجموعات الاخرى وكل واحدة تدعي أنها الإسلام الحقيقي الذي لا بُد أن ينتصر ذات يوم , وشاع التردد في كل مكان. وقام الكثيرون بتكفير الأحزاب الأخرى ووصل الامر غالباً إلى الصراع المسلح والثوري عندما كان المقصود ضرب السلطة القائمة التي كانت تتهم بالإلحاد وقمع الشعب.
كانت النحل أو الأحزاب السياسية-الدينية تنتقي ما تحب من بين الإختيارات العقلية والتطبيقية القائمة. وكانت المحاجّة تستند إلى النصوص القرآنية والسنة النبوية. وكانت الفعالية السياسية للنحل أو الأحزاب مشروطة بحظوظها من النجاح وكانت التشكيلات مفتوحة عند إنطلاقها كالإسلام بمجموعه, لكنها عند إخفاقها خضعت لتطور مألوف نحو بنية منغلقة متجمدة ترِثُها أجيالها الجديدة كما هي وتنغلق أكثر فأكثر, وتصبح جمعية الحقيقة بصورة عادية أمة أو شبه أمة.
الفصل الرابع : العالم الإسلامي والسياسة أساس المشكلة
منذ القرن التاسع عشر والجماهير والنخب الإسلامية تعاني من خيبة أمل أدت إلى توجهها إلى وصفات الغرب السياسية الاجتماعية من ليبرالية واشتراكية, ولكن هذه الوصفات لم تنجح في تغيير الأحوال نحو الافضل , فبدأت الدعوات للعودة إلى الترياق الإسلامي التقليدي , وأدى ذلك الى زيادة أعداد المنظمات التي تدعو للعودة إلى الأصل أي إلى النظام السياسي الإسلامي التقليدي.
إن ما يعانيه العالم الإسلامي لا علاقة له برسالة النبي , ولا يمكن أن نفسّر تصرفات المسلمين إنطلاقا من الدين الإسلامي , فرسالة الإسلام شيء وتصرفات المسلمين شيء أخر. ومن العبث محاولة شرح مواقف حكام وجماهير ونخب المسلمين بعناصر من العقيدة الإسلامية أو بآية قرآنية أو حديث من هنا وهناك.
الفصل الخامس : الإسلام ومفهوم الأقلية
إن الجزء الاكبر من أبناء الأقليات يريدون الديمقراطية ولكنهم يرتابون بالأكثريين أو بالمسيطرين مخافة تخريب موقفهم في سبيل إنتصار مصالحهم الخاصة وهم مدفوعون إلى المطالبة بالمجانسة لكي يشجعوا قيام الدولة الديمقراطية, إلا أن بنية الجماعة التعددية تبدو لهم على النقيض وكأنها نوع من الحماية ولسوء الحظ تميل الجماعة التعددية إلى العودة للتراتب دائماً.
تريد الأكثرية الطائفية والعرقية أن تستفيد من المنافع التي تمنحها الديمقراطية المتجانسة للأكثرية ولا تأخذ في الاعتبارغالباً أنها تفرض معاييراً هي من إمتياز إسلامي كان متبعاً في المجتمع التقليدي وهي تميل إلى التماثل مع الأمة وإلى توحيدها حول معاييرها التقليدية الخاصة.
وتدفع الحركة الاصولية اليوم بإتجاه العودة إلى التعددية التراتبية القديمة. والخلاصة أنها سوف تبعث من جديد تحيي هيمنة جماعة الاكثرية ولكنها سوف تعطيها صفة أكثر قومية منها إيديوليوجية, وسوف يسمح قانون الاكثرية بإستبعاد أو إعدام كل أقلية بالطريقة البوليسية إذا كان المذهب قد إعتبرها في الماضي أو يعتبرها اليوم غير مشروعة.
الفصل السادس : مضمون الطائفة الدينية في لبنان
في لبنان ينتمي الناس إلى طوائف دينية, وكلمة طائفة هي كلمة علمانية تعني تجمع كتلة من الناس .
ما الذي تعنيه طائفة دينية في لبنان ؟
إن الطائفة اللبنانية هي حالة خاصة للطائفة الدينية في الشرق الأوسط. إن الطوائف الشرق أوسطية هي نتاج التطور في سياق عالم الدول التي خلقته الفتوحات الإسلامية من بنية تجمع قديم يعود إلى العصور القديمة.
في لبنان كانت الدولة في عام 1943 ضعيفة وسلطتها رهن بتسوية عرضية وتنازلات متبادلة بين الطوائف اللبنانية . وفي عام 1975 تفجرت التسويات الهشّة بعد دخول طائفة من نوع آخر هي الجماعة الفلسطينية (بمسلميها ومسيحييها) المطرودة من الأردن عام 1970. وكانت هذه الجماعة مسلحة ولها سلطة موازية لسلطة الدولة اللبنانية بل تفوقها.
إن أمة – دولة لبنانية لا يمكن أن تبنى , إذ لا توجد قوة تسيطر على الطوائف وفي أول مناسبة تمزّق الجيش اللبناني وتجمع العسكريون تبعاً للطوائف التي ينتمون إليها. وظهر ضعف الأيديولوجيات العلمانية التي تتجاوز الدولة وتتجاوز القومية والتي كانت رائجة في وقت من الأوقات.
كان الطريق مفتوحاً أمام مجابهة غير محدودة بين الطوائف التي تأخذ دور الأمم تقريباً. وكما تفعل كل الأمم فهم سيتصارعون من أجل الإستمتاع بالسلطة السياسية القصوى, وكل جماعة تحاول أن تربح أقصى ما يمكن من السيطرة السياسية التي تسمح لها الظروف ببلوغها. وهكذا جرى البحث عن الربح السياسي بوسائل عسكرية.
الفصل السابع : الأخلاق الخاصة والإلتزام السياسي كأوامر دينية في الإسلام
الإسلام التقليدي: إن الأطر العقائدية في المجتمع الإسلامي مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية, وعلى المسلم إطاعة ما ورد في هاتين المدونتين. هناك معايير جرى تقديسها وأصبح من اللازم على المسلم تنفيذها سواء أكانت تتناول مجال التصرفات الشخصية أو مجال تصرفات الناس فيما بينهم والمواقف حيال المؤسسات . وتعتبر فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات. وفي أوقات كثيرة تم تعطيل هذه الفريضة من قبل وعاظ السلاطين الذين كانوا يبررون للحاكم إستبداده وضرورة إطاعة الشعب له . إضافة لهذه الفعالية الداخلية التي تهدف إلى سيادة قانون الإسلام في داخل العالم الذي تسيطر عليه الجماعة , كان هناك فعالية خارجية هدفها أن توسع أو تدافع عن ميدان الحقيقة المتميز ألا وهي الجهاد.
المجتمع الإسلامي التقليدي في الداخل وفي الخارج لم يدفع المسلمين إلى حياة يومية ورعة وأخلاقية وحسب بل أوجد أيضا بنى تنظيمية قدمت للمتحمسين إمكانية التطوع في سبيل الله حسب الصيغة النموذجية الإسلامية.
الإسلام المعاصر: بقيت القيم التي يحب الرجوع إليها هي نفسها أي القرآن والسنة النبوية ولكن تغير الدافع الرئيسي الذي يمكن الإستعانة به للحض على تطبيق التعاليم الإسلامية وهو ما نسميه اليوم بوطنية الجماعة أكثر مما هو إرادة الله. ويجب على المرء أن يتصرف بهذه الطريقة أو تلك ليس لأن الله أمر بها بل لأنه مسلم.
أما الإلتزام السياسي فهو يوجد ضمن منظمات تعلن أنها قريبة من الإسلام بسبب عدم تجاهلها للمرجع الإسلامي وتؤكد أنها تتبع الطريق الأولى التي إختطّها الإسلام والتي شوهت عبر القرون الماضية. المرجعية للإسلام وليس لله حتى لو كان الرمز المتكرر الشفهي للإيمان بالإسلام هو التكبير الذي أصبح مجرد هتافٍ طقسي يلفظ للتعبير عن الإعجاب أمام حدث إسثنائي.
ويكمن الإختلاف الكبير عن العصور الوسطى أنه توجد دعوة دائمة للدفاع عن قضية قومية أكثر تحديداً حتى ولو كانت هذه متطابقة مع قضية الإسلام , ويلتزم المسلمون اليوم ضد الأمبريالية بإسم حقوق الأمة العربية أو الأمة الإيرانية وفي الوقت نفسه للدفاع عن الجماعة الإسلامية المستهدفة بالهجوم وهنا تظهر التناقضات والتفكك بصورة متكررة , إلا أن الوعي العقائدي لا يلحظها.
الفصل التاسع : الأصولية الإسلامية والأصولية الدائمة
إن العامل الإساسي الذي يشجع على اللجوء الى الاصولية السياسية في الاسلام هو دستور جماعة المؤمنين بسبب الشروط التاريخية لتشكلها الأولي في بنية سياسية-دينية. إن إخفاق الوصفات الغربية من ليبرالية وإشتراكية أدى إلى ظهور جماعات إيديولوجية جديدة أخذت تبشر بعودة الدولة الإسلامية التي سوف تحقق من جديد مثال الدولة- المدينة في عهد النبي.
إن الدول عادة تشجع الورع والتقشف اللذين لا يشكلا معارضة وتهديداً لإمتيازات الحاكمين فيها, وعندما ترفع الدولة نفسها راية الأصولية السياسية فإنها تستطيع أن تستخدم إلى أقصى حدّ تلك القوى الروحية الهائلة التي يختزنها التفاني في الله ورسوله وهذا ما نراه في إيران.
إن المذهب الشيعي بصورة خاصة يلائم هذه التوجهات , فهو حزب المعارضة منذ بدايات الإسلام وقلما وصل الى السلطة , وواكب عبر القرون سجل إستشهاد مأسوي مقترن بقوة إنفعالية مؤثرة. وهناك بحث دائم عن شهيد جديد وتحتاج الدول الى هذا الفكر فهي تحتاج الى وجود أشخاص يضحون بأنفسهم من أجل الجماعة. وقد أسهم هذا التوجه نحو الشهادة في إنتصار الأصولية الشيعية الإيرانية وفي توكيد إستمرارها في السلطة وقد يساعد هذا في أشكال أخرى وقيادات أخرى على إنهيارها غداً. ومنذ النصر الإيراني كان من السهل على التجمعات المشابهة في العالم الإسلامي أن تشعر بالإنتعاش , خصوصاَ مع وجود ميل إلى رأب الصدع بين السنة والشيعة.
تعليقات
إرسال تعليق