السياسة بوصفها حرفة -ماكس ويبر


بعض الأفكار من محاضرة " السياسة بوصفها حرفة" لماكس ويبر ...



يُمكن تعريف مفهوم السياسة بأنه "إدارة أو التأثير الذي يُمارس في إدارة رابطة سياسية والتي هي الدولة" . والدولة هي "الجماعة الإنسانية التي تدّعي داخل أرض محددّة حقّها بإحتكار العنف الطبيعي المشروع" . العنف ليس الوسيلة الطبيعية أو الوحيدة للدولة بل هو وسيلتها النوعية , فكل "دولة تقوم على العنف" كما قال تروتسكي . فلا يُمكن تخيّل قيام بنائات إجتماعية إن لم يكن العنف وسيلة فيها , ففي غياب العنف نكون أمام حالة فوضى وليس حالة دولة.
وترتكز الدولة على علاقة سيطرة الإنسان على الإنسان القائمة على العنف الشرعي , وحتى تقوم الدولة يجب أن يرضى الناس الخاضعين للسيطرة بالسلطة التي يدّعيها المسيطرون , وهناك ثلاثة أسباب تُشكل أسس مشروعية السلطة وهي :
أولاً: سلطة "الأمس الازلي المتمثلة بالأعراف كما في حال السيطرة التقليدية للأمير والإقطاعي ورجال الدين ...
ثانياً: السيطرة الكاريزمية التي تقوم على أساس الولاء الشخصي والثقة الشخصية بفرد ما يتمتّع بصفات كاريزمية (صفات غير عادية) .
ثالثاً: السيطرة المفروضة بقوة الشرعية , أي بقوة الإيمان بصلاحية دستور شرعي . إنها السلطة التي تقوم على الطاعة في أداء الواجبات تبعاً لما يفرضه الدستور المعمول به .
أما إنقياد الناس الخاضعين فمشروط بحوافز الخوف والأمل , الخوف من إنتقام قوى غيبية أو إنتقام من بيدهم السلطة , أو الأمل بثواب الأخرة أو بتحقيق مصالح متنوعة .
أما السياسة فتعني "السعي من أجل المشاركة بالسلطة , أو من أجل التأثير في توزيع السلطة , سواء كان ذلك بين الدول أو بين مجموعات مختلفة داخل الدولة الواحدة ".  
إن من يُمارس السياسة يسعى إلى السلطة بوصفها وسيلة لخدمة أهداف أخرى (مثالية أو أنانية) أو هو يسعى للسلطة من أجل السلطة لكي يتمتّع بشعور الإمتياز الذي تمنحه .
يمكن للمرء أن يُمارس السياسة بطرق عديدة : أي حين يسعى إلى التأثير في توزيع السلطة بطرق عديدة داخل التشكيلات السياسية وفيما بينها, سواء في المناسبات أو في حال مورست السياسة بشكل ثانوي أو أساسي ( المشاركة في الإقتراع – إلقاء خطاب سياسي) ... أما أهل السياسة الذين يجعلون من السياسة مهنة إضافية لهم فهم يمارسون هذه المهمة في حال الضرورة فقط ( الاشخاص الذين يعملون في الماكينات الإنتخابية للمرشحين للإنتخابات مثالاً).
هناك طريقتان يمكن بهما جعل السياسة حرفة . إما أن يعيش المرء لأجل السياسة أو أن يعيش من السياسة. وغالباً ما يُفعل الأمران معاً فكرياً ومادياً. فمن يحيا من أجل السياسة فهو يجعل منها هدف حياته , فهو إما يلتذّ بالسلطة التي يُمارسها بمجرد إمتلاكه لها أو لأنها تؤمن توازنه الداخلي أو تعبر عن قيمة شخصية ... أما من يعتبر السياسة وظيفة يعتاش منها,  فهو الذي يسعى إلى أن يجعل منها مصدر دخل دائم له , وهو سيجد نفسه بإستمرار أمام أحد البدائل الآتية : إما العمل في الصحافة , وإما القبول بمركز وظيفي داخل الحزب , أو محاولة شغل وظيفة تقوم على تمثيل مصالح بعض الفئات (نقابات-غرف تجارة- غرف زراعة)...
إن التحول الذي جعل من السياسة مشروعاً , والذي فرض تأهلاً خاصاً عند من يتصارعون للوصول إلى السلطة , أدى إلى وجود نوعين من الموظفين : الموظفون المختصون من جهة  والموظفون السياسيون من جهة أخرى. والموظفون السياسيون هم الذين تقع على عاتقهم مهمة تأمين الإدارة الداخلية العامة وفي بعض الأنظمة السياسية يتغيرون كلما تغيرت الكثرية الحاكمة , وعادة يتميز هؤلاء بخضوعهم لدورات تدريبية وإمتحانات مهنية إضافة إلى تلقيهم لدراسات أكاديمية.
أما الموظفون المختصون , فعليهم ألا يقوموا بما يجب على السياسي القيام به , أي الصراع بإستمرار , لأن التخريب والصراع والميل مع الهوى من خصائص السياسي الذي يخضع تصرفه لمبدأ مسؤولية مغاير لما يقوم به الموظف ... الموظف مسؤول أمام رؤسائه , أما السياسي فيتحمل بنفسه مسؤوليات ما يقوم به من أعمال ولا يجوز له التنصل من هذه المسؤوليات . إن الموظفين الذين يتمتعون بحسّ أخلاقي عالٍ هم بالضرورة رجال سياسة سيئون وعليهم عدم تولي المسؤوليات بالمفهوم السياسي لهذه الكلمة ...
إن السياسي يتمتع بصفات ثلاثة حاسمة:  الشغف والشعور بالمسؤولية وبُعد النظر. الشغف بالمعنى الموضوعي للكلمة , إي الإنكباب على القضية بشغف , ولكن هذا الشعور وحده لا يصنع سياسياً , ما لم يكن في خدمة قضية , وما لم نجعل من المسؤولية المقابل لهذه القضية النجم الهادي الذي يوجه سلوكنا . كما أن بُعد النظر هي صفة نفسية حاسمة بالنسبة إلى السياسي . إنها الملكة التي تدع الوقائع تؤثر فيه بما له من قوة صففاء وروح سكينة. إنها المسافة التي تقوم بينه وبين الأشخاص والناس. وإن إنعدام هذه المسافة هو من الأخطاء القاتلة التي يقع مُتعاطو السياسة فيها . وعليه فإن على السياسي أن ينتصر على عدو شديد الإبتذال في كل ساعة وهذا العدو يتمثل بالغرور والزهو بالنفس .
إن غريزة السلطة هي صفة طبيعية عند السياسي , لكن الخطأ يقع عندما يصبح السعي للسلطة لا هدف له سوى إشباع رغبات خاصة , بدلاً من تكريس النفس كلياً لخدمة القضية.
إن العنف هو الوسيلة الحاسمة في السياسة , وعليه فلا يوجد في العالم مذهب أخلاقي يُمكن أن يُبرر إستخدام وسائل غير نبيلة أو خطيرة للوصول إلى هدف ما , لذا من المستحيل التوفيق بين أخلاق الإعتقاد (القيم الأخلاقية الدينية) وبين أخلاق المسؤولية (المسؤولية السياسية والإدارية).
على من يريد العمل في السياسة , أن يعي التناقضات الأخلاقية وأن يعرف مسؤوليته تجاه ما سيتحول إليه هو نفسه جراء ضغط السياسة . إن على من يبحث عن خلاص نفسه أو عن خلاص نفوس آخرين , أن لا يبحث عن ذلك عن طريق السياسة التي لا تنجز سوى المهام التي لا يمكن حلّها إلا بالقوة.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صباح الخير يا جنوب !

قصائد برتولد بريخت السياسية

ترنيمة الحب - علياء الأنصاري